فصل: الشاهد السابع والأربعون(br)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: خزانة الأدب وغاية الأرب ***


الشاهد الحادي والأربعون

لما عصى أصحابه مصعب *** أدى إليه الكيل صاعاً بصاع

لما تقدم في البيت الذي قبله‏.‏

قال حفيد السعد في حاشية المطول‏:‏ أفرد ضمير إليه مع أنه راجع إلى الأصحاب، قصداً إلى كل واحد منهم‏.‏

وقال الفناري‏:‏ قيل الضمير في أدى راجع إلى شخص مذكور فيما سبق، وفي إليه راجع إلى مصعب‏.‏ وقيل‏:‏ الضمير في أدى راجع إلى مصعب وفي إليه راجع إلى أصحابه، قصداً إلى كل واحد منهم، ونقول لمشابهة لفظ أفعال للمفرد، ولهذا يجيء في كثير من المواضع وصف المفرد به، نحو‏:‏ ثوب أسمال ونطفة أمشاج، ونظيره قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه‏}‏؛ فإن الضمير في بطونه راجع للأنعام‏.‏

وهذا الكلام برمته من شرح اللب في باب المفعول المطلق‏.‏

وقوله أدى إليه الكيل إلخ، قال الميداني في مجمع الأمثال‏:‏ جزاه كيل الصاع بالصاع أي‏:‏ كافأ إحسانه بمثله وإساءته بمثلها‏.‏

وقوله صاعاً قال الحفيد‏:‏ هو في موضع الحال مثل بايعته يداً بيد، وهو في الأصل جملة، أي‏:‏ صاع منه بصاع، كذا كتب قدس سره بخطه في الحاشية‏.‏

وقال الفناري‏:‏ وقوله صاعاً بصاع حال من ضمير أدى، والأصل مقابلاً صاعاً بصاع، ثم طرح مقابلاً وأقيم صاعاً مقامه، ثم الحال ليست هي صاعاً وحده، بل هو مع قوله بصاع، لأن معنى المنوب عنه يحصل بالمجموع، كذا ذكره صاحب الإقليد في كلمته فاه إلى في ‏.‏

ومرجع الضميرين على ما تقدم ناشئ عن عدم الاطلاع عليه‏.‏

والبيت من قصيدة للسفاح بن بكير بن معدان اليربوعي، رثى بها يحيى بن شداد ابن ثعلبة بن بشر، أحد بني ثعلبة بن يربوع‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ هي لرجل من بني قريع، رثى بها يحيى بن ميسرة صاحب مصعب بن الزبير، وكان وفي له حتى قتل معه‏.‏

وهذه أبيات من مطلعه‏:‏ السريع

صلى على يحيى وأشياعه *** رب رحيم وشفيع مطاع

لما عصى أصحابه مصعب *** أدى إليه الكيل صاعاً بصاع

يا سيداً ما أنت من سيد *** موطأ البيت رحيب الذراع

نقلته من المفضليات وشرحها لابن الأنباري‏.‏ فالضمير في أدى راجع إلى يحيى، وضمير إليه راجع إلى مصعب‏.‏

وروي البيت أيضاً كذا‏:‏

لما جلا الخلان عن مصعب *** أدى إليه القرض صاعاً بصاع

فلا شاهد في البيت على هذه الرواية، وهي رواية المفضل الضبي في المفضليات ‏.‏ وجلا بالجيم بمعنى تفرق، من الجلاء بالفتح والمد، وهو الخروج من الوطن؛ يقال‏:‏ قد جلوا عن أوطانهم وجلوتهم أنا - لازم ومتعد - ويقال أيضاً أجلو عن البلد وأجليتهم أنا، كلاهما بالألف‏.‏ والخلان‏:‏ جمع خليل‏.‏ وقوله يا سيداً ما أنت من سيد إلخ، يأتي إن شاء الله تعالى في الشاهد الخامس والثلاثين بعد الأربعمائة‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ وهو

الشاهد الثاني والأربعون

ألا ليت شعري هل يلومن قومه *** زهيراً على ما جر من كل جانب

لما تقدم في البيت الذي قبله‏.‏

قال الفناري‏:‏ إنما لم يجز هاهنا رجوع الضمير إلى المصدر المدلول عليه وهو اللوم، وعلى الشاعر على سنن الالتفات، لأن مقصود الشاعر قوم زهير، فإن الذوق السليم يفهم من هذا البيت تحريض أقربائه على لومه ولومهم على ترك لومه، ولعل قوم زهير غير قوم الشاعر‏.‏ والله أعلم‏.‏

وقوله على ما جر في القاموس‏:‏ الجريرة‏:‏ الذنب والجناية، جر على نفسه وغيره وجريرة يجر بالضم والفتح جراً‏.‏ وقال حفيد السعد‏:‏ قوله على ما جر، أي‏:‏ على العار الذي جره ومده من كل جانب وناحية، بسبب الظلم والعداوة‏.‏ لكنه قدس سره قد كتب في الحاشية‏:‏ يقال جر عليهم جريرة، أي‏:‏ جنى جناية‏.‏ وقال الفناري‏:‏ وقد يروى بالحاء المهملة والزاي المعجمة، من الحز وهو القطع‏.‏ وهذا لا وجه له هنا، والرواية إنما هي الأولى كما يأتي، وبعده‏:‏

بكفي زهير عصبة العرج منهم *** ومن بيع في الركبين لخم وغالب

والبيتان من شعر أبي جندب بن مرة القردي‏.‏ قال السكري في شرح أشعار هذيل‏:‏ زهير من بني لحيان‏.‏ وجر‏:‏ جنى، أي‏:‏ جر على نفسه جرائر من كل جانب‏.‏ وروى قومه زهير يعني بنصب قومه ورفع زهير، وعليه لا شاهد فيه‏.‏ وقوله بكفي زهير إلخ عصبة مبتدأ والظرف قبله خبره‏.‏ ومن يبيع معطوف على المبتدأ‏.‏ والعصبة‏:‏ الجماعة‏.‏ والعرج ، بفتح العين المهملة وسكون الراء بعدها جيم‏:‏ قرية جامعة بين مكة المدينة، بها قتل قوم زهير وسبي نساؤهم وذراريهم‏.‏ وضمير منهم لقوم زهير، والظرف حال من عصبة بتقدير مضاف له وللمعطوف، أي‏:‏ قتل العصبة في العرج وسبي من بيع في الركبين، حال كونهم من قوم زهير، بسبب جنايةكفي زهير‏.‏ ولخم وغالب بدل من الركبين‏.‏ ولخم‏:‏ حي من اليمن‏.‏ وغالب‏:‏ قبيلة من قريش‏.‏ ويقدر منهم أيضاً بعد قوله‏:‏ ومن بيع‏.‏

وسبب هذا الشعر ما رواه السكري قال‏:‏ مرض أبو جندب، وكان له جار من خزاعة اسمه خاطم، فقتله زهير اللحياني وقتلوا امرأته، فلما برأ أبو جندب من مرضه خرج من أهله حتى قدك مكة، فاستلم الركن وكشف عن استه وطاف، فعرف الناس أنه يريد شراً، فقال‏:‏ الرجز

إني امرؤ أبكي على جارية *** أبكي على الكعب والكعبيه

ولو هلكت بكيا عليه *** كانا مكان الثوب من حقويه

يقال عذت بحقويك ‏.‏ يريد‏:‏ كانا في موضع المعاذ، أي‏:‏ كانا مني بمكان من أجرت‏.‏ فلما فرغ من طوافه وقضى من مكة حاجته، خرج في الخلعاء من بكر وخزاعة فاستجاشهم على بني لحيان، فخرجوا معه حتى صبح بهم بني لحيان في العرج، فقتل فيهم سبى من نسائهم وذراريهم، وباعهم فاشترتهم هاتان القبيلتان، فقال أبو جندب في ذلك‏:‏

ألا ليت شعري هل يلومن قومه‏.‏‏.‏‏.‏ البيتين والقردي نسبة إلى قرد بكسر القاف، على لفظ الحيوان المعروف، وهو بطن من هذيل بن مدركة بن الياس بن مضر‏.‏ ولحيان بكس اللام وسكون المهملة بعدها مثناة تحتية‏:‏ بطن من هذيل أيضاً‏.‏ وأبو جندب شاعر جاهلي‏.‏

تتمة

البيت الذي في المطول وهو قوله‏:‏ جزى بنوه إلخ

رواه الأصبهاني في الأغاني في ترجمة عدي بن زيد كذ‏:‏ البسيط

جزى بنوه أبو الغيلان من كبر *** وحسن فعل كما يجزى سنمار

وذكر فيه جزاء سنمار؛ قال‏:‏ وأما صاحب الخورنق فهو النعمان بن الشقيقة، وهو الذي ساح على وجهه فلم يعرف له خبر؛ والشقيقة - أمه - بنت أبي ربيعة بن ذهل بن شبيان‏.‏ وهو النعمان بن امرئ القيس بن عمرو بن عدي بن نصر ابن ربيعة اللخمي‏.‏ فذكر بن الكلبي أنه كان سبب بنائه الخورنق‏:‏ أن يزجرد بن سابور كان لا يبقى له ولد، فسأل عن منزل مريء صحيح من الأدواء والأسقام، فدل على ظهر الحيرة؛ فدفع ابنه بهرام جور بن يزدجرد، إلى النعمان بن الشقيقة، وكان عامله على أرض العرب، وأمره بأن يبني الخورنق مسكناً له ولابنه، وينزله إياه معه بإخراجه إلى بوادي العرب؛ وكان الذي بنى الخورنق رجلاً يقال له سنمار، فلما فرغ من بنائه عجبوا من حسنه وإتقان عمله، فقال‏:‏ لو علمت أنكم توفوني أجرتي وتصنعون بن ما أستحقه لبنيته بناء يدور مع الشمس حيثما دارت‏!‏ فقالوا‏:‏ وإنك لتبني ما هو أفضل منه ولم تبنه‏؟‏‏!‏ ثم أمر به فطرح من رأس الجوسق‏.‏

وفي بعض الروايات أنه قال‏:‏ إني لأعرف في هذا القصر موضع عيب إذا هدم تداعى القصر‏.‏

فقال‏:‏ أما والله لا تدل عليه أحداً أبداً‏!‏ ثم رمى به من أعلى القصر فقالت الشعراء في ذلك أشعاراً كثيرة، منها قول أبي الطمحان القيني‏:‏

جاء سنمار جزوها، وربه *** وباللات والعزى، جزاء المكفر

ومنها قول سليط بن سعد‏:‏ البسيط

جزى بنوه أبا الغيلان من كبر *** وحسن فعل كما يجزى سنمار

قال عبد العزى بن امرئ القيس الكلبي، وكان أهدى إلى الحارث بن مارية الغساني أفراساً ووفد إليه فأعجب به واختصه، وكان للملك ابن مسترضع في بني عبد ود - من كلب - فنهشته حية فظن الملك أنهم اغتالوه؛ فقال لعبد العزى‏:‏ جئني بهؤلاء القوم‏!‏ فقال‏:‏ هم قوم أحرار ليس لي عليهم فضل في نسب ولا فعل‏؟‏ فقال‏:‏ لتأتيني بهم ولأفعلن وأفعلن‏!‏ فقال له‏:‏ رجونا من جنابك أمراً حال دونه عقابك، ودعا ابنيه شراحيل وعبد الحارث فكتب معهما إلى قومه‏:‏

جزاني جزاه الله شر جزائه *** جزاء سنمار وما كان ذا ذنب

سوى رصه البنيان عشرين حجة *** يعل عليه بالقراميد والسكب

وهي أبيات‏.‏ قال فقتله النعمان ‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ وهو

الشاهد الثالث والأربعون

كأن لم يمت حي سواك ولم تقم *** على أحد إلا عليك النوائح

على أنه إذا وقع مرفوع بعد المستثنى في الشعر أضمروا له عاملاً من جنس الأول، أي‏:‏ قامت النوائح‏.‏ والمسألة مفصلة في الشرح‏.‏

وهذا البيت من أبيات مذكورة في الحماسة لأشجع السلمي وهي‏:‏

مضى ابن سعيد حين لم يبق مشرق *** ولا مغرب إلا له فيه مادح

وما كنت أدري ما فواضل كفه *** على الناس حتى غيبته الصفائح

فأصبح في لحد من الأرض ميت *** وكانت به حياً تضيق الصحاصح

سأبكيك ما فاضت دموعي فإن تغض *** فحسبك مني ما تجن الجوانح

وما أنا من رزء وإن جل جازع *** ولا لسرور بعد موتك فارح

لئن حسنت فيك المراثي وذكره *** لقد حسنت من قبل فيك المدائح

كأن لم يمت حي سواك‏.‏‏.‏ البيت‏.‏ والصفائح‏:‏ أحجار عراض يسقف بها القبر‏.‏ والصحاصح‏:‏ جمع صحصح وهي الأرض المستوية الواسعة‏.‏ وتغيض‏:‏ تنقض، يقال غاض الماء وغضته‏.‏

وقوله كأن لم يمت كأن مخففه واسمها ضمير شأن‏.‏ يقول‏:‏ أفرط الحزن عليك حتى كأن الموت لم يعهد قبل موتك، وكأن النياحة لم تقم على سواك‏.‏ وأشجع هو ابن عمرو السلمي، ويكنى أبا الوليد، م ولد الشريد بن مطرود السلمي، وتزوج أبوه امرأة من أهل اليمامة فشخص معها إلى بلدها فولدت له هناك أشجع ونشأ باليمامة، ثم مات أبوه فقدمت به أمه البصرة فطلبت ميراث أبيه، وكان له هناك مال، فماتت بها‏.‏ وربي أشجع ونشأ بالبصرة فكان من لا يعرفه يدفع نسبته، ثم كبر وقال الشعر فأجاد وعد في الفحول، وكان الشعر يومئذ في ربيعة واليمن، ولم يكن لقيس عيلان شاعر، فلما نجم أشجع افتخرت به قيس وأثبتت نسبه، ثم خرج أشجع إلى الرقة والرشيد بها، فنزل على بني سليم، ومدح البرامكة وانقطع إلى جعفر خاصة، فوصله الرشيد فأثرى وحسنت حاله‏.‏ ولما ولى الرشيد جعفر بن يحيى خراسان، جلس لتهنئة الناس، وأنشد الشعراء، ودخل في آخرهم أشجع، فقال‏:‏ لتأذن في إنشاد شعر قضيت به حق سؤددك وكمالك، وخففت به ثقل أياديك عندي فقال‏:‏ هات يا أبا الوليد، فأنشده‏:‏ المتقارب

أتصبر يا قلب أم تجزع *** فإن الديار غداً بلقع

غداً يتفرق أهل الهوى *** ويكثر باك ومسترجع

إلى أن بلغ قوله‏:‏

ودوية بين أقطاره *** مقاطع أرضين لا تقطع

تجاوزتها فوق عيرانة *** من الريح في سيرها أسرع

إلى جعفر نزعت رغبة *** وأي فتى نحوه تنزع

فما دونه لامرئ مطمع *** ولا لامرئ غيره مقنع

ولا يرفع الناس ما حطه *** ولا يضعون الذي يرفع

يريد الملوك مدى جعفر *** ولا يصنعون كما يصنع

وليس بأوسعهم في الغنى *** ولكن معروفه أوسع

يلوذ الملوك بآرائه *** إذا نالها الحدث الأفظع

بديهته مثل تدبيره *** متى رمته فهو مستجمع

وكم قائل، إذ رأى ثروتي *** وما في فضول الغنى أصنع

غداً في ظلال ندى جعفر *** يجر ثياب الغنى أشجع

فقل لخراسان تحيا فقد *** أتاها ابن يحيى الفتى الأروع

فأقبل عليه جعفر يخاطبه مخاطبة الأخ أخاه، ثم أمر له بألف دينار‏.‏

قال الصولي في الورقات‏:‏ قال لي يوماً عبد الله بن المعتز‏:‏ من أين أخذ أشجع قوله‏:‏

وليس بأوسعهم في الغنى ***‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ البيت

فقلت‏:‏ من قول موسى شهوات لعبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه‏:‏

ولم يك أوسع الفتيان مال *** ولكن كان أرحبهم ذراعا

فقال‏:‏ أصبت، هكذا هو‏!‏‏.‏

ورأيت في الحماسة في باب الأضياف‏:‏ وقال أبو زياد الأعرابي الكلابي‏:‏ الوافر

له نار تشب على يفاع *** إذا النيران ألبست القناعا

ولم يك أكثر الفتيان مال ***‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ البيت

وإنما لقب موسى بشهوات، لأن عبد الله بن جعفر كان يشتهي عليه الشهوات فيشتريها له موسى ويتربح عليه‏.‏ وهو مولى لبني سهم؛ وأصله من أذربيجان‏.‏ كذا في كتاب الشعراء لابن قتيبة‏.‏

وقال أبو عبيد البكري في شرح أمالي القالي‏:‏ موسى شهوات هو موسى ابن يسار مولى قريش، ويقال مولى بني سهم، ويقال مولى بني تيم؛ كان يجلب إلى المدينة القند والسكر من أذربيجان، فقالت امرأة‏:‏ ما يزال موسى يجلب إلينا الشهوات، فغلب عليه‏.‏

وقال ابن شبة‏:‏ كان موسى سؤولاً ملحفاً، فإذا رأى مع أحد شيئاً يعجبه‏:‏ من ثوب ومتاع ودابة، تباكى، فإذا قيل له‏:‏ مالك‏!‏ قال‏:‏ أشتهي هذا، فسمي موسى شهوات‏.‏ وقال ابن الكلبي‏:‏ سمي بذلك لقوله في يزيد بن معاوية‏:‏ الخفيف

لست منا وليس خالك من *** يا مضيع الصلاة بالشهوات

يقال موسى شهوات على الصفة، وعلى الإضافة وهو أصح ويكنى أبا محمد، وهو أخو إسماعيل بن يسار‏.‏

وبيت موسى شهوات نسبه السعد في المطول، وصاحب المعاهد في شواهد التلخيص ، إلى أبي زياد الأعرابي الكلابي كما في الحماسة‏.‏

قال الصولي‏:‏ بعد أن تصرف جعفر بالأمر والنهي والتولية والعزل، بدا للرشيد عزله، فعزله عن خراسان، فاغتم لذلك جعفر فدخل عليه أشجع فقال‏:‏ السريع

أمست خراسان تعزى بم *** أخطأها من جعفر المرتجى

كان الرشيد المعتلى أمره *** ولى على مشرقها الأبلجا

ثم أراه رأيه أنه *** أمسى إليهم منهم أحوجا

كم فرق الدهر بأسبابه *** من محصن أهلاً وكم زوجا

وكم به الرحمن من كربة *** في مده تقصر قد فرجا

فقال له جعفر‏:‏ قمت والله بالعذر لأمير المؤمنين، وأصبحت الحق، وخففت علي العزل‏!‏ فأمر له بألف دينار أخرى‏.‏

ولما دخل أشجع على الرشيد بالرقة كان قد فرغ من قصره الأبيض، فأنشده‏:‏ الكامل

قصر عليه تحية وسلام *** فيه لأعلام الهدى أعلام

نشرت عليه الأرض كسوتها التي *** نسج الربيع وزخرف الأوهام

إلى أن قال‏:‏

وعلى عدوك يا ابن عم محمد *** رصدان‏:‏ ضوء الصبح والإظلام

فإذا تنبه رعته، وإذا غف *** سلت عليه سيوفك الأحلام

قال الصولي في الورقات، بسنده إلى أشجع‏:‏ إن الرشيد قال لي‏:‏ من أين أخذت قولك وعلى عدوك‏.‏‏.‏ البيتين ‏؟‏ فقلت‏:‏ لا أكذب والله‏!‏ من قول النابغة‏:‏

فإنك كالليل الذي هو مدركي *** وإن خلت أن المنتأى عنك واسع

فقال صه‏!‏ هو عندي من كلام الأخطل لعبد الملك بن مروان - وقد قال له‏:‏ أنا مجيرك من الجحاف - فقال‏:‏ من يجيرني منه إذا نمت‏؟‏‏!‏ وترجمة أشجع مطولة في الورقات للصولي، وفي الأغاني للأصبهاني‏.‏

وأشجع ليس من يستشهد بكلامه، فكان ينبغي تأخيره عن البيت الذي بعده‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ وهو

الشاهد الرابع والأربعون

لا أشتهي يا قوم إلا كاره *** باب الأمير ولا دفاع الحاجب

على أن باب الأمير منصوب ب لا أشتهي مقدراً‏.‏ والمسألة مفصلة في الشرح أيضاً‏.‏

قال أمين الدين الطبرسي، في شرح الحماسة‏:‏ هنا كارها حال، يقول‏:‏ لا أعلق شهوتي بورود باب الأمير ومدافعة الحاجب إلا على كره؛ يصف ميله إلى البدو أهله وإلفه إياهم‏.‏

وقال السيد في حاشيته على المطول‏:‏ قصر فيه الشاعر نفسه في زمان اشتهائه باب الأمير على صفة الكراهة له؛ فهو من قصر الموصوف على الصفة‏.‏ ويمكن أن يقال‏:‏ قصر فيه اشتهاءه باب الأمير عليه موصوفاً بالكراهية له لا يتعداه إليه موصوفاً بصفة الإرادة له، فهو من قصر الصفة على الموصوف‏.‏ ولك أن تقول قصر اشتهاءه الباب على أنه مجتمع مع كراهيته له دون إرادته إياه؛ فيكون أيضاً من قصر الموصوف على الصفة‏.‏ ثم اشتهاء الشيء إن لم يكن مستلزماً لإرادته لم يناف كراهته، فجاز أن يكون الشيء مراداً منفوراً عنه، كشرب الأدوية المرة عند المرضى‏.‏ فإن قيل‏:‏ الاشتهاء يستلزم الإرادة، فالجمع بينه وبين الكراهية باختلاف الجهة، فيشتهي الدخول على الأمير لما فيه من التقرب، ويكرهه لما فيه من المذلة ودفاع الحاجب، فبالحقيقة المشتهى هو التقرب، والمكروه تلك المذلة‏.‏

وبهذا يعرف سقوط قول بعض شراح الحماسة هنا، فإنه قال‏:‏ ليس قوله كارهاً حالاً من أشتهي، لأنه لا يكون كارهاً للشيء مشتهياً له في حال، من أجل أن الشهوة منافية للكراهية، ولكنه حال من فعل مقدر، والمعنى‏:‏ لا أشتهي باب الأمير ولا آتيه إلا كارهاً، وولكن آتيه كارهاً‏.‏

وهذا البيت أول أبيات ثلاثة مذكورة في الحماسة، لموسى بن جابر الحنفي، والبيتان بعده‏:‏

ومن الرجال أسنة مذروبة *** ومزندون شهودهم كالغائب

منهم أسود لا ترام بعضهم *** مما قمشت وضم حبل الحاطب

يشبه الرجل، في مضائه وصرامته، وفي دقته إذا هزل، بالسيف والسنان‏.‏ ومذروبة‏:‏ محددة، وكذلك مذربة، وكل شيء حددته فقد ذربته‏.‏ يقول‏:‏ من الرجال رجال كالأسنة المطرورة مضاء ونفاذاً في الأمور‏.‏ والمزند وكذلك الزند‏:‏ الضيق؛ وقولهم‏:‏ فلان زند متين، أي‏:‏ زند شديد الضيق متين شديد بخيل‏.‏ أي‏:‏ إن نالهم خطب ضاقوا عنه ولم يتجهوا فيه لرشد‏.‏ وكان من حقه أن يقول‏:‏ ومنهم زندون ، لكنه اكتفى بالأول كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏منها قائم وحصيد‏}‏‏.‏ قال المرزوقي‏:‏ سمعت أبا علي الفارسي يقول‏:‏ كل صفتين تتنافيان فلا يصح اجتماعهما لموصوف واحد، فلابد من إضمار من معهما إذا فصل جملة بهما، متى لم يجيء ظاهراً؛ فإن أمكن اجتماع صفتين لموصوف واحد استغنى عن إضمار من كقولك‏:‏ صاحباك منهما ظريف وكريم‏.‏ وقوله‏:‏ شهودهم إلى آخره يروى بدله حضورهم ، يريد أنه لا غناء عندهم فحضورهم كغيبتهم، كقول الشاعر‏:‏

شهدت جسيمات العلى وهو غائب *** ولو كان أيضاً شاهداً كان غائباً

قال الطبرسي‏:‏ يجوز أن يريد بالشهود جمع شاهد وهو الحاضر، وأراد بالغائب الكثرة فتكون جنساً، وإن كان الشهود مصدراً فالغائب يجوز أن يكون جنساً كالأول، أي‏:‏ شهودهم كغيبة الغائب بحذف المضاف؛ ويجوز أن يكون مصدراً كالباطل‏.‏ وقوله منهم ليوث إلخ‏.‏ يقول‏:‏ من الرجال رجال كالأسود في العزة والمنعة، لا يطلب اهتضامهم ولا يطمع فيهم، ومنهم متفاوتون كقماش البيت - وهو رديء متاعه جمع من ههنا وههنا‏.‏ وقوله‏:‏ وضم حبل الحاطب وهو كقول الآخر‏.‏

وكلهم يجمعهم بيت الأدم

قال الأصمعي‏:‏ بيت الأدم يجمع الجيد والرديء، ففيه من كل جلد رقعة؛ وكذلك الحاطب يجمع في حبله الرطب واليابس، والجزل والشخت، وربما احتطب ليلاً فضم في حبله أفعى وهو لا يدري‏.‏

ونحوه قول العامة في الشيء المتفاوت والقوم المختلطين‏:‏ هم خرق البرنس ‏.‏ استأنف بهذا البيت تلك القسمة على وجه آخر، فهو من باب البيان‏:‏ وهو أن يحمل الشاعر معنى ويفسره بما يليه‏.‏

وصاحب هذه الأبيات موسى بن جابر الحنفي، أحد شعراء بني حنيفة المكثرين، يقال له ابن الفريعة وهي أمه، كما أن حسان بن ثابت رضي الله عنه يقال له ابن الفريعة، وتقدم في ترجمته‏.‏ ويقال كان نصرانياً، وهو القائل‏:‏

وجدنا أبانا كان حل ببلدة *** سمى بين قيس قيس عيلان والفزر

برابية أما العدو فحولن *** مطيف بنا في مثل دائرة المهر

فلما نأت عنا العشيرة كله *** أقمنا وحالفنا السيوف على الدهر

كذا في المؤتلف والمختلف للآمدي‏.‏ وسوى‏:‏ صفة بلدة بمعنى متوسطة‏.‏ والفزر‏:‏ لقب لسعد بن زيد مناة‏.‏ والمعنى‏:‏ وجدنا أبانا حل ببلدة متوسطة لديار قيس بن عيلان وسعد بن زيد مناة يريد‏:‏ حل بين مضر ونأى عن ربيعة، لأن قيساً والفزر من مضر‏.‏

وقوله‏:‏ فلما نأت إلخ، يقول‏:‏ لما خذلتنا عشيرتنا وهم ربيعة، اكتفينا بأنفسنا فأقمنا بدار الحفاظ والصبر، واتخذنا سيوفنا حلفاء على الدهر، وهذا مثل ضربه لاستقلالهم فيما نهضوا فيه بعددهم وعدتهم، وبلائهم وصبرهم، واستغنائهم عن القاعدين‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ وهو

الشاهد الخامس والأربعون‏:‏

ليبك يزيد ضارع لخصومه *** ومختبط مما تطيح الطوائح

على أن الفعل المسند إلى ضارع حذف جوازاً، أي‏:‏ بيكه ضارع؛ وهذا على رواية ليبك بالبناء للمفعول ويزيد نائب فاعل‏.‏ وأما على روايته بالبناء للفاعل ففاعله ضارع ويزيد مفعوله، ولا حذف، ولا شاهد‏.‏ وهذه الرواية هي الثابتة عند العسكري، وعد الرواية الأولى غلطاً، فإنه قال في كتاب التصحيف فيما غلط فيه النحويون‏:‏ ومما قلبوه وخالفهم الرواة، قول الشاعر ليبك يزيد ضارع ‏.‏‏.‏ البيت‏.‏ وقد رواه خالد والأصمعي وغيرهما بالبناء للفاعل من البكاء ونصب يزيد‏.‏

ومثله في كتاب فعلت وأفعلت لأبي حاتم السجستاني، قال‏:‏ أنشد الأصمعي ليبك يزيد ضارع أي‏:‏ بالبناء للفاعل، ولم يعرف ليبك يزيد أي‏:‏ بالبناء للمفعول، وقال‏:‏ هذا من عمل النحويين‏.‏

وزعم بعضهم أنه لا حذف في البيت على الرواية الأولى أيضاً، لجواز أن يكون يزيد منادى وضارع نائب فاعل، قال ابن هشام في شرح الشواهد‏:‏ والتوجيه الأول أولى لأنه قد روى ليبك يزيد بفتح ياء يبك وكسر كافه ونصب يزيد، فلما ظهر ضارع فاعلاً في هذه الرواية استحق أن يقدر فاعلاً في الأخرى ليستويا‏.‏ وتوهم الدماميني في الحاشية الهندية، وتبع الفناري في حاشية المطول، وأن القائل بنداء يزيد يزعم أنه منادى في الروايتين، واستشكله بأنه لم يثبت رفع يزيد في رواية البناء للفاعل‏.‏ وليس كما توهم، فإن الذي خرجه على النداء إنما هو على رواية ليبك بالبناء للمفعول كما نقل ابن هشام، والرواية الأولى أبلغ بتكرار الإسناد إجمالاً ثم تفصيلاً، كما بينه السعد في المطول‏.‏

وقال ابن خلف‏:‏ لما قال ليبك يزيد عم المأمورين بالتفجع على هذا الميت والبكاء عليه من كثرة الغناء، ثم خص هذين الصنفين من جملة الباكين عليه لشدة احتياجهما إليه، ثم قال نقلاً عن بعضهم‏:‏ إن الإبهام على المخاطب في مثل هذا النحو الذي يقصد به العموم، تعظيم للمقصود ومدح عميم‏.‏ ويزيد على رواية البناء لفاعل غير منصرف للعلمية ووزن الفعل لأنه منقول من الفعل دون ضميره المستتر، وعلى الرواية الأخرى يحتمل أن يكون كالأول وهو الظاهر، ويحتمل أن يكون منقولاً من الفعل مع فاعله المستتر ويكون حينئذ جملة محكية‏.‏

واعلم أن هذا البيت لوقوعه في المتن شرحه الشارح المحقق، ونحن نذكر ما يتعلق به‏.‏ فقوله الضارع‏:‏ الذليل، من قولهم ضرع ضراعة، فعله من الباب الثالث، وورد في لغة أيضاً من باب تعب، ويقال أيضاً ضرع ضرعاً كشرف شرفاً بمعنى ضعف، فهو ضرع أيضاً تسمية بالمصدر، كذا في المصباح ‏.‏ وقوله‏:‏ لخصومه متعلق بضارع وإن لم يعتمد على شيء إلخ‏.‏ أقول‏:‏ ظاهره أنه لم يعتمد على شيء مما ذكر من شروط عمل اسم الفاعل النصب، وفيه أنه معتمد على موصوف مقدر‏.‏ قال ابن مالك في الخلاصة‏:‏ الرجز

وقد يكون نعت محذوف عرف *** فيستحق العمل الذي وصف

ويحتمل أن يكون معناه أنه متعلق بضارع وإن فرض أنه لم يعتمد على شيء، لأنه يكفيه رائحة الفعل، وكيف لا يتعلق به مع اعتماده على موصوف مقدر، لكنه بعيد عن السياق‏.‏

قال الفناري في حاشية المطول‏:‏ فإن قلت‏:‏ بل قد اعتمد على الموصوف المقدر، أي‏:‏ شخص ضارع، فعلى تقدير اشتراط الاعتماد في تعلق الجار به لا محذور أيضاً‏!‏ قلت‏:‏ إن كفى في عمله الاعتماد على موصوف مقدر لا يتصور الإلغاء، لعدم الاعتماد حينئذ، لتصريح الشارح - يعني السعد - في شرح الكشاف ، بأن ذكر الموصوف مع اسم الفاعل ملتزم لفظ وتقديراً تعييناً للذات التي قام بها المعنى‏.‏ وهو مخالف لتصريحهم، اللهم إلا أن يقال‏:‏ الاعتماد على موصوف مقدر إنما يكفي لعمله إذا قوي المقتضي لتقديره، كما في يا طالعاً جبلاً، ويا راكباً فرساً، لانضمام اقتضاء حرف النداء إلى اقتضاء نفس اسم الفاعل؛ لكن تأتي اعتبار مثل هذا المقتضى في كل موضع محل نظر وهذا كلام جيد‏.‏

وقوله لأجل الخصوم أشار أن اللام في الخصومة لام التعليل؛ ويحتمل أن يكون بمعنى عند أيضاً‏.‏ وقوله فإن يزيد كان ملجأ للأذلاء والضعفاء الأولى ملجأ للأذلاء والفقراء، فإن المختبط‏:‏ بمعنى السائل كما فسره الشارح به‏.‏ وقوله وتعليقه بيبك ليس بقوي في المعنى قال الفناري‏:‏ لأن مطلق الخصومة ليس سبباً للبكاء، بل هي بوصف المغلوبية‏.‏

وقوله والمختبط الذي يأتيك للمعروف من غير وسيلة وقع في بعض النسخ‏:‏ الذي يأتي بالليل للمعروف ‏.‏ والظاهر أنه قيد الليل تحريف من النساخ، وكون الاختباط الإتيان للمعروف من غير وسيلة هو قول أبي عبيدة، فإنه قال المختبط‏:‏ الرجل يسألك من غير معرفة كانت بينكما، ولا يد سلفت منه إليك، وعليه فيكون الاختباط متعدياً لمفعول واحد كما مثل الشارح المحقق بقوله‏:‏ يقال اختبطني فلان ‏.‏

وقال ابن خلف‏:‏ الاختباط بمعنى السؤال والطلب، فهو بمنزلة الاقتضاء، تقول اختبطني معروفي فخبطته، أي‏:‏ أنعمت عليه، ومثله اقتضيت مالاً أي‏:‏ سألته إياه‏.‏ وحكى بعضهم اختبط فلان فلاناً ورقاً، إذا أصاب منه خيراً‏.‏ فعلى تفسير أبي عبيدة في البيت حذف مفعول واحد، أي‏:‏ ومختبط ورق ورزق ونحو ذلك‏.‏ ويجوز أن يكون هذا المفعول ضمير يزيد أي‏:‏ ومختبط إياه‏.‏ وعلى التفسير الثاني فيه حذف مفعولين أي‏:‏ ومختبط الناس أموالهم‏.‏ ومثله إذا سألت فاسأل الله، أي‏:‏ إذا سألت أحداً معروفه فاسأل الله معروفه‏.‏

وروى‏:‏ ومستنمح بدل ومختبط، أي‏:‏ من استمنحه أي‏:‏ طلب منحته وهي العطية والرفد، والأصل في المنحة هي الشاة والناقة يعطيها صاحبها رجلاً يشرب لبنها ثم يردها إذا انقطع اللبن؛ ثم كثر استعماله حتى أطلق على كل عطاء‏.‏ ومنحته من باب نفع وضرب، إذا أعطيته‏.‏

وصف الشاعر يزيد بالنصر والكرم للذليل وطالب المعروف، فيقصده الضارع للخصومة، ويلتجئ إليه المختبط إذا أصابته شدة السنين‏.‏ وقوله وأصله من خبطت الشجرة إلخ الخبط بسكون الباء‏:‏ إسقاط الورق من الشجر بالعصا لعلف الإبل‏.‏ والخبط بفتحتين هو الورق الساقط‏.‏ والمخبط بكسر الميم هي العصا التي يخبط بها، والفعل من باب ضرب‏.‏ وقال ابن مالك‏:‏ الأصل فيه أن الساري والسائر لابد من أن يختبط الأرض، ثم اختصر الكلام فقيل للآتي طالباً للجدوى‏:‏ مختبط‏.‏ وخبطت الرجل إذا أنعمت عليه من غير معرفة، وخبطته إذا سألته أيضاً؛ فهو ضد‏.‏

وقوله وهو إما على حذف الزوائد إلخ أشار إلى أن الطوائح جمع على غير قياس، لأن فعله رباعي، يقال أطاحته الطوائح وطوحته، فقياس الجمع أن يكون المطوحات والمطاوح، فإن تكسير مفعل مفاعل بحذف إحدى العينين وإبقاء الميم، وتخريج الجمع على حذف الزوائد هو لأبي علي الفارسي، وتخريجه على النسب هو لأبي عمرو الشيباني، فإن تقديره عنده مما تطيحه الحادثات ذوات الطوائح‏.‏

ونقل ابن خلف عن الأصمعي أن العرب تقول‏:‏ طاح الشيء بنفسه وطاحه غيره، بمعنى طوحه وأبعده‏:‏ فعلى هذا تكون الطوائح جمع طائحة من المتعدي قياساً، ولا شذوذ‏.‏

ولم أر هذا النقل في الكتب المدونة في اللغة ولا غيرها‏.‏

وقوله يقال طاح يطوح إلخ طاح بمعنى هلك، وكل شيء ذهب وفني فقد طاح‏:‏ وقوله وطاح يطيح وهو واوي إلخ فيكون أصلهما طوح يطوح بكسر الواو فيهما فأعلا‏.‏

وجعله صاحب العباب مما عينه جاء معتلاً بالواو تارة وبالياء تارة أخرى ولم يعتبر أن الواو صارت ياء بالإعلال‏.‏ وسبقه ابن جني في إعراب الحماسة فإنه قال‏:‏ ومن قال طاح يطيح فكان عنده كباع يبيع، فقياسه أن يقول المطايح، فيصحح الياء لأنها عين المفعل‏.‏

وقوله مما تطيح متعلق بمختبط إلخ هذا هو الظاهر المتبادر إليه، وقال ابن خلف‏:‏ وقوله مما تطيح، موضعه رفع على النعت لمختبط، أوله ولضارع وجميعاً، أي‏:‏ كائن وكائنان، فتكون ما للجنس‏.‏ ويؤيد هذا التأويل رواية من روى ممن تطيح أي‏:‏ من الذي تطيحه الطوائح فحذف العائد؛ وروى أبو علي قد طوحته الطوائح وهذا يؤيد كون هذه الجملة نعتاً لمختبط لرجمع الضمير إليه مفرداً‏.‏ وقوله أي‏:‏ يسأل من أجل أشار إلى أن من تعليلية‏.‏ وقال ابن الحاجب في إيضاحه وأماليه‏:‏ ومن للإبتداء وبمعنى السببية‏.‏ فالأول على أن ابتداء الاختباط من الإطاحة وسبب الاختباط الإطاحة‏.‏ فإن قلت‏:‏ ما الفرق بينهما‏؟‏ قلت‏:‏ فيه خلاف، قال أبو حيان‏:‏ كأن التعليل والسبب عندهم شيء واحد، قال السيوطي‏:‏ هذا هو الحق‏.‏

وفي شرح جمع الجوامع للمحلي ما يصرح به، لأنه قال المعبر عنه هنا بالسبب هو المعبر عنه في القياس بالعلة‏!‏ وخالفهم ابن السبكي في الأشباه والنظائر فقال‏:‏ إن الفرق بينهما ثابت لغة ونحواً وشرعاً‏:‏ قال اللغويين‏:‏ السبب كل شيء يتوصل به غيره ومن ثم سموا الحبل سبباً، وذكروا أن العلة‏:‏ المرض وكلمات يدور معناها على أن العلة أمر يكون عنه أمر آخر‏.‏

وذكر النحاة أن اللام للتعليل ولم يقولوا للسببية‏.‏ وقال أكثرهم‏:‏ الباء للسببية ولم يقولوا للتعليل، وذكر ابن مالك السببية والتعليل‏.‏ وهذا تصريح بأنهما غيران‏.‏ وقال أهل الشرع‏:‏ السبب‏:‏ ما يحصل الشيء عنده لا به، والعلة‏:‏ ما يحصل به‏.‏ وأنشد ابن السمعاني على ذلك‏:‏

ألم تر أن الشيء للشيء علة *** تكون به، كالنار تقدح بالزند‏!‏

والمعلول يتأثر عن علته بلا واسطة بينهما ولا شرط يتوقف الحكم على وجوده، والسبب إنما يفضي إلى الحكم بواسطة ووسائط ولذلك يتراخى الحكم عنه حتى توجد الشرائط وتنتفي الموانع‏.‏ وأما العلة فلا يتراخى الحكم عنها، إذ لا شرط لها، بل متى وجدت أوجبت معلولها بالاتفاق‏.‏‏.‏ إلى آخر ما فصله‏.‏

وقوله‏:‏ إذهاب الوقائع ماله، أشار إلى أن مفعول تطيح محذوف وهو ماله‏.‏ وقوله‏:‏ أي‏:‏ يبك لأجل إهلاك المنايا يزيد ، أشار إلى أن مفعول تطيح على هذا التقدير هو يزيد، وأراد بالمنايا أسباب الموت، إطلاقاً لاسم المسبب على السبب، وإلا فالشخص الواحد لا تهلكه إلا منية واحدة‏.‏ وقوله‏:‏ ويجوز أن تكون بما معنى التي ، زاد بعضهم‏:‏ ويجوز أن تكون نكرة موصوفة‏.‏

وهذا البيت من أبيات لنهشل بن حري - على ما في شرح أبيات الكتاب لابن خلف - في مرثية يزيد، وهي

لعمري لئن أمسى يزيد بن نهشل *** حشا حدث تسفي عليه الروائح

لقد كان ممن يبسط الكف بالندى *** إذا ضن بالخير الأكف الشحائح

فبعدك أبدى ذو الضغينة ضغنه *** وسد لي الطرف العيون الكواشح

ذكرت الذي مات الندى عند موته *** بعاقبه إذا صالح العيش طالح

إذا أرق أفنى من الليل ما مضى *** تمطى به ثني من الليل راجح

ليبك يزيد ضارع‏.‏‏.‏ ***‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ البيت

سقى جدثاً أمسى بدومة ثاوي *** من الدلو والجوزاء غاد ورائح

الحش‏:‏ ما في البطن‏.‏ والجدث بالجيم والثاء المثلثة‏:‏ القبر‏.‏ وتسفي‏:‏ مضارع سفت الريح التراب‏:‏ ذرته، ويقال أسفته أيضاً فالمفعول محذوف‏.‏ والروائح‏:‏ أي‏:‏ الأيام الروائح، من راح اليوم يروح روحاً من باب قال، وفي لغة من باب خاف، إذا اشتدت ريحه فهو رائح‏.‏ وأما كونه جمع ريح لم أقف على من نبه عليه، مع أن ريحاً لم تجمع على هذا الوزن‏.‏ وضن ، يقال ضن بالشيء يضن من باب تعب، ضناً وضنة بالكسر وضنانة بالفتح‏:‏ بخل فهو ضنين، ومن باب ضرب لغة‏.‏ والشحائح‏:‏ جمع شحيح، من الشح وهو البخل، وفعله من باب قتل، وفي لغة من بابي ضرب وتعب‏.‏ أراد‏:‏ أنه إن فقد بالعدم فهو حي بذكره بالكرم‏.‏ وما أحسن قول أبي نصر الميكالي‏:‏ الكامل

باني العلى والمجد والإحسان *** والفضل والمعروف أكرم باني

الجود رأي مسدد وموفق *** والبذل فعل مؤيد ومعان

والبر أكرم ما وعته حقيبة *** والشكر أفضل ما حوته يدان

وإذا الكريم مضى وولى عمره *** كفل الثناء له بعمر ثان

ولأجل هذا البيت الأخير أنشدت هذه الأبيات‏.‏ وعاه يعيه‏:‏ حفظه وجمعه‏.‏ والحقيبة‏:‏ أصله العجز، ثم سمي ما يحمل من القماش على الفرس خلف حقيبته مجازاً، لأنه محمول على العجز‏.‏

وقوله فبعدك أبدى إلخ فيه التفات من الغيبة إلى الخطاب‏.‏ والضغينة والضغن بالكسر‏:‏ اسم من ضغن صدره ضغناً من باب تعب بمعنى حقد‏.‏ وسد‏:‏ أغلق‏.‏ والطرف‏:‏ مصدر طرف البصر طرفاً من باب ضرب‏:‏ تحرك ونظر، وهو مفعول مقدم‏.‏ والعيون‏:‏ فاعل مؤخر‏.‏ والكواشح‏:‏ جمع كاشحة مؤنث الكاشح، وهو مضمر العداوة، وكشح له بالعداوة‏:‏ عاداه ككاشحه، وإنما نسبه إلى العيون، لأن العداوة أول ما تظزهر من العين، أي‏:‏ صرت بعدك ذليلاً لا أقدر أن أرفع بصري إلى أحد‏.‏ وفي نسخة وسدد لي من التسديد وهو التقويم، أي‏:‏ صوبت نحوي عيون الأعداء نظرها، وهذه أحسن‏.‏

وقوله ذكرت الذي إلخ، ضمير موته راجع للذي، وهو العائد، والباء متعلقة بمات‏.‏ والعاقب‏:‏ الذي يخلف من كان قبله في الخير، وضمير عاقبه راجع للندى، يقول‏:‏ مات الندى مع من يخلفه عند موت يزيد‏.‏ ويصح أن يعود الضمير ليزيد‏.‏ وإذ‏:‏ متعلقة بذكرت‏.‏ والصالح من الصلاح، والطالح من الطلاح وهو ضد الصلاح‏.‏ والأرق‏:‏ السهر‏.‏ وتمطى‏:‏ امتد وطال‏.‏ وضمير به راجع إلى ما مضى‏.‏ والثني بكسر المثلثة وسكون النون، يقال ثني من الليل، أي‏:‏ ساعة، وقيل وقت‏.‏ وراجح أي‏:‏ زائد ثقيل، من رجح الميزان رجوحاً‏:‏ مال‏.‏ وإذا عاملها تمطى‏.‏ يشكو بهذا البيت طول الليل‏.‏ وقوله أمسى بدومة ثاويا دومة بفتح الدال والميم‏:‏ اسم موضع بين الشام والموصل، وهو من منازل جذيمة الأبرش، كان وقع فيه الطاعون، ذكره الأخطل في شعره، كذا في المعجم لأبي عبيد البكري‏.‏ وغاد‏:‏ فاعل سقى، واحده غادية وهي السحابة تنشأ غدوة‏.‏ والرائح‏:‏ مطر العشي وهو آخر النهار‏.‏ وقوله من الدلو كان في الأصل صفة لما بعده‏:‏ فإن الدلو وسط فصل الشتاء، فإن الشمس تحل فيه بالجدي والدلو والحوت، والجوزاء آخر فصل الربيع، والشمس تحل فيه بالحمل والثور والجوزاء‏.‏ ونهشل بن حري بفتح الحاء وتشديد الراء المهملتين بلفظ المنسوب إلى الحر والحرة، وهو ابن ضمرة بن جابر بن قطن بن نهشل بن دارم بن مالك بن حنظلة ابن مالك بن زيد مناة بن تميم‏.‏

وكان اسم ضمرة جد نهشل شقة بكسر الشين المعجمة وتشديد القاف‏.‏ ودخل على النعمان فقال له‏:‏ من أنت‏؟‏ فقال‏:‏ أنا شقة بن ضمرة‏.‏ قال النعمان‏:‏ تسمع بالمعيدي لا أن تراه‏!‏ فقال‏:‏ أبيت اللعن، إنما المرء بأصغريه بقلبه ولسانه، إن نطق نطق ببيان، وإن قاتل قاتل بجنان‏!‏ قال‏:‏ أنت ضمرة بن ضمرة؛ يريد أنك كأبيك‏.‏ كذا في كتاب الشعراء لابن قتيبة وكان نهشل شاعراً حسن الشعر، وهو القائل‏:‏

ويوم كأن المصطلين بحره *** وإن لم تكن نار وقوف على جمر

صبرنا له حتى يبوخ وإنم *** تفرج أيام الكريهة بالصبر

قال العسكري في التصحيف‏:‏ وابنه حري بن نهشل بن حري شاعر أيضاً، وله يقول الفرزدق‏:‏

أحري قد فاتتك أخت مجاشع *** فصيلة فانكح بعده وتأيم

ونهشل بن حري من المخضرمين، نقل ابن حجر في الإصابة عن المرزباني‏:‏ أنه شريف مشهور مخضرم، بقي إلى أيام معاوية، وكان مع علي في حروبه، وقتل أخوه مالك بصفين وهو يومئذ رئيس بن حنظلة، وكانت رايتهم معه؛ ورثاه نهشل بمراث كثيرة‏.‏‏.‏ قال‏:‏ وأبوه شاعر شريف مشهور مذكور، وجده ضمرة سيد ضخم الشرف، وكان من خير بيوت بني دارم‏.‏

تتمة

نسب النحاس هذه الأبيات في شرح أبيات الكتاب، وتبعه ابن هشام، للبيد الصحابي؛ وحكى الزمخشري أنها لمزرد أخي الشماخ، وقال ابن السيرافي‏:‏ هي للحارث بن ضرار النهشلي يرثي يزيد بن نهشل؛ وقال اللبي‏:‏ إنها لضرار النهشلي، وذكر البعلي أنها للحارث بن نهيك النهشلي، وقيل هي للمهلهل‏.‏

والصواب‏:‏ أنها لنهشل بن حري كما في شرح أبيات الكتاب لابن خلف؛ وكذا في شرح أبيات الإيضاح ‏.‏ والله أعلم‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ وهو

الشاهد السادس والأربعون‏:‏

لا تجزعي إن منفس أهلكته *** وإذا هلكت فعند ذلك فاجزعي

على أن الكوفيين أضمروا فعلاُ رافعاً لمنفس ، أي‏:‏ إن هلك منفس وأهلك منفس‏.‏ وأورده في باب الاشتغال أيضاً كذا‏.‏ وأما البصريون فقد رووه‏:‏

لا تجزعي إن منفساً أهلكته

وكذا أورده سيبويه بنصب منفس على أنه منصوب بفعل مضمر تقديره إن أهلكت منفساً أهلكته، فأهلكته المذكورة مفسر للمحذوف‏.‏

وهذه الجملة من باب الاشتغال لا تدخل في الجملة التفسيرية التي لا محل لها من الإعراب وإن حصل بها تفسير‏.‏

قال أبو علي في البغداديات‏:‏ الفعل المحذوف والفعل المذكور في نحو قوله‏:‏ لا تجزعي أن منفساً أهلكته ، مجزومان في التقدير، وإن انجزام الثاني ليس على البدلية، إذا لم يثبت حذف المبدل منه، بل على تكرير إن أي‏:‏ إن أهلكت منفساً إن أهلكته؛ وساغ إضمار إن وإن لم يجز إضمار لام الأمر إلا ضرورة، لاتساعهم فيها، بدليل إيلائهم إياها الاسم، ولأن تقدمها مقو للدلالة عليها‏.‏

وقوله وإذا هلكت الواو عطف هذه الجملة الشرطية على الشرطية التي قبلها، ولم أر في جميع الطرق من روى بالفاء بدل الواو إلا العيني، فإنه قال‏:‏ الفاء عاطفة‏.‏ والمعنى لا يقتضي الفاء فإنها تدل على الترتيب والتعقيب والسببية، والثلاثة منتفية سواء كان الترتيب معنوياً كما في قام زيد فعمرو؛ وزكريا وهو عطف مفصل على مجمل نحو‏:‏ ونادى نوح ربه فقال رب ‏.‏

وقوله فعند ذلك فاجزعي أورده الشارح في الفاء العاطفة، على أن إحدى الفاءين زائدة، ولم يعين أيتهما زائدة‏.‏

قال أبو علي في المسائل القصرية‏:‏ الفاء الأولى زائدة والثانية فاء الجزاء؛ ثم قال‏:‏ اجعل الزائدة أيهما شئت‏.‏ وعين القاضي في تفسيره الفاء الأولى، فإنه أورد البيت نظيراً لقوله تعالى‏:‏ فبذلك فليفرحوا ، فقال‏:‏ الفاء في بذلك زائدة، مثلها الفاء الداخلة على عند في البيت، وتقديم عند للتخفيف كتقديم ذلك ‏.‏

وسيبويه لا يثبت زيادة الفاء، وحكم بزيادتها هنا للضرورة‏.‏ ومن تبعه وجه ما أوهم الزيادة، فوجهها صاحب اللباب بأنها إنما كررت هنا لبعد العهد بالفاء الأولى كما كرر العامل في قوله‏:‏

لقد علم الحي اليمانون أنني *** إذا قلت أما بعد أني خطيبها

أعيد أني لبعد الهد بأنني، وأجاز الأخفش زيادتها في الخير مطلقاً، وحكى زيد فوجد ‏.‏ وقيده بعضهم بكون الخير أمر ونهياً نحو‏:‏

وقائلة خولان فانكح فتاتهم

وقوله‏:‏ الخفيف

أنت فانظر لأي ذاك تصير

وأوله المانعون بأن التقدير‏:‏ هذا زيد فوجد، وهذه خولان، وبأن الأصل انظر فانظر، ثم حذف انظر فبرز ضميره‏.‏ والجزع‏:‏ قيل هو الحزن، وقيل أخص منه فإنه حزن يمنع الإنسان ويصرفه عما هو بصدده ويقطعه عنه‏.‏ وأصله القطع، يقال جزعت الحبل‏:‏ قطعته لنصفه‏.‏ ويقال أيضاً‏:‏ جزعنا الوادي، أي‏:‏ قطعناه عرضاً؛ وقيل هو قطعة مطلقاً‏.‏ فالجزع بالفتح المصدر، والجزع بالكسر منقطع الوادي،وقيل هو الفزع‏.‏ ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أجزعنا أم صبرنا‏}‏‏.‏ والفزع أخص من الخوف، وهو انقباض يعتري الإنسان ونفار من كل شيء مخيف؛ وهو من جنس الجزع‏.‏ والمنفس قال في القاموس‏:‏ وشيء نفيس ومنفوس ومنفس بالضم يتنافس فيه ويرغب، ونفس ككرم نفاسة ونفاساً بالكسر ونفساً بالتحريك، والنفيس‏:‏ المال الكثير، ونفس به كفرح‏:‏ ضن، وعليه بخير‏:‏ حسد، وعليه الشيء نفاسة‏:‏ لم يره له أهلاً‏.‏ انتهى‏.‏

وفي عمدة الحفاظ‏:‏ وأصل المنافسة مجاهدة النفس للتشبيه بالأفاضل في غير إدخال ضرر على غيره، وشيء نفيس منفوس به أي‏:‏ مضنون‏.‏ والإهلاك لشيء‏:‏ إيقاع الهلاك به‏.‏ والهلاك على أربعة أوجه‏:‏ أحدها وهو المراد هنا افتقاد الشيء عنك وهو موجود عند غيرك، ومنه‏:‏ هلك عني سلطانيه ‏.‏ والثاني‏:‏ هلاك الشيء باستحالة وفساد، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويهلك الحرث والنسل‏}‏‏.‏ والثالث‏:‏ الموت نحو‏:‏ إن امرؤ هلك ‏.‏ والرابع‏:‏ الشيء من العالم وعدمه رأساً، وذلك هو المسمى فناء كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كل شيء هالك إلا وجهه‏}‏‏.‏ وقد يطلق الهلاك على العذاب والخوف والفقر ونحوها، لأنها أسبابه يقول‏:‏ لا تجزعي من إنفاقي النفائس ما دمت حياً؛ فإني أحصل أمثالها وأخلفها عليك، ولكن اجزعي إذا مت فإنك لا تجدين خلفاً مني‏.‏

وهذا البيت آخر قصيدة للنمر بن تولب، يصف نفسه فيها بالكرم ويعاتب زوجته على لومها فيه، وكان أضافه قوم في الجاهلية فعقر لهم أربعة قلائص واشترى لهم زق خمر، فلامته على ذلك، فقال هذه القصيدة وهي‏:‏ الكامل

قالت لتعذلني من الليل اسمع *** سفه تبيتك الملامة فاهجعي

قوله اسمع مقول قولها، وقوله سفه إلخ هو خبر مقدم وتبيتك مبتدأ مؤخر‏.‏ والملامة مفعول تبيتك وهو مضاف لفاعله‏.‏ وروى سفهاً بالنصب فتكون كان مقدرة‏.‏ وعلى الوجهين الجملة مقولة لقول محذوف، أي‏:‏ فقلت لها‏.‏ يقول‏:‏ لامت من الليل عجلة عن الصبح، وكان ذلك منها سفهاً، مثله قول الشاعر‏:‏ البسيط

هبت تلوم وبئست ساعة اللاحي *** هلا انتظرت بهذا اللوم إصباحي

والسفه‏:‏ خفة العقل؛ والأصل فيه خفة النسج في الثوب‏.‏ يقال ثوب سفيه أي‏:‏ خفيف النسج‏.‏ والسفه أيضاً‏:‏ خفة البدن، ومنه زمام سفيه‏:‏ أي‏:‏ كثير الاضطراب‏.‏ واستعمل في خفة النفس كنقصان العقل في الأمور الدنيوية والأخروية‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏فإن كان الذي عليه الحق سفيهاً‏}‏، أي‏:‏ ضعيف العقل باعتبار خفته، ولذلك قوبل برزانة، فقيل‏:‏ رزين العقل‏.‏ والتبيت‏:‏ أراد به التبييت لأنه مصدر بيت الأمر، أي‏:‏ دبره ليلاً‏.‏ والهجوع‏:‏ النوم بالليل‏.‏

لا تجزعي لغد وأمر غد له *** أتعجلين الشر مالم تمنعي

يقول إننا الآن بخير فلما تعجلين الشر ما لم تمنعي من الخير‏.‏ وقوله وأمر غد له ، أي‏:‏ أن أمر غد ورزق غد موكول إلى غد، فلا ينبغي له التحزن من اليوم‏.‏ وقوله أتعجلين استفهام توبيخي، وتعجلين بفتح التاء، وأصله بتاءين‏.‏ وأراد ب الشر الفقر والجزع، وما مصدرية ظرفية‏.‏

قامت تبكي أن سبأت لفتية *** زقاً وخابية بعود مقطع

تبكي بضم التاء وكسر الكاف المشددة، يقال بكاه عليه تبكية أي‏:‏ هيجه للبكاء فمفعوله محذوف‏.‏ وروى تباكى أي‏:‏ تتباكى‏.‏ وسبأ الخمر مهموز الآخر كجعل سبأ وسباء واستبأها أيضاً، بمعنى اشتراها للشرب لا للتجارة‏.‏ والزق بالكسر‏:‏ جلد يخرز ولا ينتف صوفه، يكون للشراب وغيره، والزق بالضم‏:‏ الخمر نفسها‏.‏ والخابية‏:‏ الجرة العظيمة، ويقال الحب والزير‏.‏ وأصلها الهمز لكن تركوه‏.‏ والعود بفتح المهملة‏:‏ المسن من الإبل‏.‏ والمقطع بزنة اسم المفعول‏:‏ البعير الذي أقطع عن الضراب، والبعير قام من الهزال‏.‏ يخبر أنها لامته فيما لا خطر له‏.‏

وقريت في مقرى قلائص أربع *** وقريت بعد قرى قلائص أربع

قريت الضيف قرى بالكسر والقصر، وقراء بالفتح والمد، أي‏:‏ أضفته‏.‏ والمقرى بالفتح‏:‏ موضع القرى، وبالكسر وكذلك المقراة القصعة التي يقرى فيها‏.‏ وقلائص مفعول قريت، وهي جمع قلوص وهي الناقة الشابة، ولهذا حذف التاء من العدد‏.‏ وقوله بعد قرى قلائص أربع ، كل لفظ مضاف لما بعده إلى الآخر‏.‏ يقول‏:‏ قريت في موضع قلائص أربعاً ولم يمنعني ذلك أن قريت بعدهن‏.‏

أتبكياً من كل شيء هين *** سفه بكاء العين ما لم تدمع

يقول‏:‏ سفه بكاؤك من كل شيء لا يحزنك ولا تدمع عينك منه، فلو كنت حزينة كان أعذر لك عندي‏.‏

فإذا أتاني إخوتي فدعيهم *** يتعللوا في العيش ويلهوا معي

تعلل بالأمر‏:‏ تشاغل به‏.‏ والعيش‏:‏ الحياة المختصة بالحيوان، وهو أخص من الحياة، لأن الحياة تقال في الحيوان وفي الملك وفي الباري تعالى‏.‏ واللهو‏:‏ الشغل عن مهمات الأمور بما تميل إليه النفس، والواو في يلهوا ضمير الجماعة، ولام الفعل محذوفة مثل الرجال يعفون‏.‏

لا تطرديهم عن فراشي إنه *** لابد يوماً أن سيخلو مضجعي

الفراش‏:‏ البيت، كذا قال محمد بن حبيب في شرحه‏.‏ وهي هنا لفظة قبيحة‏.‏ وأن مخففة من الثقيلة‏.‏

هلا سألت بعادياء وبيته *** والخل والخمر التي لم تمنع

قال شارح الديوان محمد بن حبيب‏:‏ بعادياء يريد عن عادياء‏.‏ يقول‏:‏ لم يبق عادياء، وكذلك أنا أقل بقاء‏.‏ وهو عادياء أبو السموءل الأزدي الغساني‏.‏ وقال آخرون‏:‏ يريد عاداً‏.‏ وكل شيء قديم عند العرب عادي‏.‏ وقوله والخل والخمر التي لم تمنع يعني الخير والشر، كما يقال ما فلان بخل ولا بخمر، أي‏:‏ ليس عنده خير ولا شر‏.‏ واذهب فما أنت بخل ولا بخمر‏.‏ قال أبو عبيد في الأمثال‏:‏ أراد أنه كان لا يبخل بشيء مما كان عنده‏.‏

وفتاتهم عنز عشية أبصرت *** من بعد مرأى في الفضاء ومسمع

قالت أرى رجلاً يقلب نعله *** أصلاً وجو آمن لم يفزع

قوله وفتاتهم مجرور، وعنز عطف بيان عليه، وهو بفتح العين المهملة وسكون النون وآخره زاي معجمة اسم زرقاء اليمامة، وكانت من جديس بنت ملكهم، وكانت تغذى بالمخ‏.‏

وفي القاموس‏:‏ وعنز امرأة من طسم سبيت فحملوها في هودج، وألطفوها بالقول والفعل، فقالت‏:‏ هذا شر يومي حين صرت أكرم للسباء‏.‏ ونصب شر على معنى ركبت في شر يوميها‏.‏ ثم قال‏:‏ وزرقاء اليمامة امرأة من جديس كانت تبصر من مسيرة ثلاثة أيام‏.‏ انتهى‏.‏ فتأمل‏.‏ قال الشاعر‏:‏ الرمل

شر يوميها وأغواه له *** ركبت عنز بحدج جملاً

وكانت رأت رجلاً من طلائع جمع تبع قدام الجيش يقلب نعلاُ من مسيرة ثلاثة أيام ولم يفزع لهم أحد ولم يعلم بمجيئهم‏.‏ والأصل‏:‏ جمع أصيل، وهو ما بعد صلاة العصر إلى الغروب‏.‏ وقوله وجو يريد أهل جو، وجو‏:‏ اسم بلد، وهي اليمامة التي تضاف إليها زرقاء اليمامة‏.‏ وقوله‏:‏ وفتاتهم قال ابن حبيب‏:‏ نسب عنزاً إلى بيت عادياء وليست منهم، وإنما كان شيئاً في أول الدهر فنسبه إلى بعضهم، كما قال زهير‏:‏ كأحمر عاد وإنما كان في ثمود، وكما قال آخر‏:‏

مثل النصارى قتلوا المسيحا

فكأن صالح أهل جو غدوة *** صبحوا بذيفان السمام المنقع

يريد الجميع، لأنه إذا هلك الوجوه والصالحون منهم فالذين دونهم أحرى أن يهلكوا‏.‏ وقد صبحوا بالبناء للمفعول من الصبوح، وهو شرب الغداة، تقول‏:‏ صبحته صبحاً من باب ضربته‏.‏ والذيفان بفتح الذال وكسرها وبالمثناة التحتية وتهمز فيهما‏:‏ السم القاتل، والسمام بالكسر‏:‏ جمع سم‏.‏ والمنقع‏:‏ كل ما ينقع بالماء ونحوه‏.‏

كانوا كأنعم من رأيت فأصبحو *** يلوون زاد الراكب المتمتع

أي‏:‏ كانوا بنعمة وخصب ثم أصبحوا يعسر عليهم أن يزودوا راكباً، لأنهم لا يقدرون على ذلك‏.‏ والمتعة‏:‏ الزاد يقول‏:‏ ما له متعة ولا بتات‏.‏ يقول المسافر متعني وبتتني وزودني، كل ذلك بمعنى واحد‏.‏

كانت مقدمة الخميس وخلفه *** رقص الركاب إلى الصباح بتبع

الرقص بفتحتين‏:‏ الخبب، وهو نوع من السير، وأرقص الرجل بعيره‏:‏ أي‏:‏ حمله على الخبب‏.‏ ويروى‏:‏ ركض الركاب ‏.‏ والركاب‏:‏ الإبل، واحده راحلة‏.‏ وضمير كانت راجع إلى نظرة عنز المرأة المذكورة المفهومة من السياق‏.‏ وخلف تلك النظرة إبل تبع تسير إلى الصباح حتى لحقهم‏.‏ وتبع‏:‏ أبو حسان بن تبع، الذي غزا جديس فقتلهم واستباح اليمامة‏.‏

لا تجزعي إن منفس أهلكته ***‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ البيت

وهذا آخر القصيدة‏.‏ والنمر بن تولب صحابي يعد من المخضرمين، ونسبه المذكور في الاستيعاب وغيره‏.‏ وهو عكلي منسوب إلى عكل بضم المهملة وسكون الكاف، وهي أمة كانتزوجها عوف بن قيس بن وائل بن عوف بن عبد مناة بن أد بن طابخة، فولدت له ثلاثبنين، ثم مات فحضنتهم عكل فنسبوا إليها‏.‏

والنمر شاعر جواد، واسع العطاء كثير القرى، وهاب لماله، وكان أبو عمرو ابن العلاء يسميه الكيس لجودة شعره وكثرة أمثاله‏.‏ ويشبه شعره بشعر حاتم الطائي‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ كان النمر شاعر الرباب في الجاهلية، ولم يمدح أحداً ولا هجا‏.‏ ووفد على النبي صلى الله عليه وسلم مسلماً وهو كبير‏.‏

قال أبو حاتم السجستاني في كتاب المعمرين‏:‏ عاش النمر بن تولب مائتي سنة، وخرف وألقي على لسانه‏:‏ انحروا للضيف، أعطوا السائل، اصبحوا الراكب‏.‏ أي‏:‏ اسقوه الصبوح‏.‏

قال ابن قتيبة في ترجمته من كتاب الشعراء‏:‏ وألقى بعض الباطلين على لسانه‏:‏ نيكوا الراكب، فكان يقولها‏.‏ ومن شعره‏:‏ الكامل

لا تغضبن على امرئ في ماله *** وعلى كرائم صلب مالك فاغضب

وإذا تصبك خصاصة فارج الغنى *** وإلى الذي يعطي الرغائب فارغب

باب التنازع

أنشد فيه، وهو

الشاهد السابع والأربعون

فكنت كالساعي إلى مثعب *** موائلاً من سبل الراعد

على أن الكسائي وقع في أشنع مما فر منه من حذف الفاعل مضمراً، لئلا يلزم الإضمار قبل الذكر في نحو‏:‏ ضرباني وضربت الزيدين، مع أن الإضمار قبل الذكر قد ورد، وحذف الفاعل في غير المسائل المحصورة لم يرد‏.‏

والساعي من سعى الرجل في مشيه وسعى إلى الصلاة‏:‏ ذهب إليها على أي وجه كان‏.‏ وأصل السعي التصرف في كل عمل، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأن ليس للإنسان إلا ما سعى‏}‏‏.‏ والمثعب بفتح الميم وسكون المثلثة وفتح العين المهملة قال في الصحاح‏:‏ هو واحد مثاعب الحياض‏.‏ وانثعب الماء‏:‏ جرى في المثعب؛ وثعبت الماء في الحوض بالتخفيف‏:‏ فجرته‏.‏ والثعب بالتحريك‏:‏ مسيل الماء في الوادي‏.‏ والموئل اسم فاعل من واءل منه على وزن فاعل أي‏:‏ طلب النجاة وهرب‏.‏ والموئل‏:‏ الملجأ، وقد وأل يئل وألا وؤلا على فعول، أي‏:‏ لجأ‏.‏ والسبل بالسين المهملة والباء الموحدة المفتوحتين، هو المطر‏.‏ والراعد‏:‏ سحاب ذو رعد، ويقال رعدت السماء رعداً من باب قتل، ورعوداً‏:‏ لاح منها الرعد‏.‏ كذا في المصباح ‏.‏ يقول‏:‏ أنا في التجائي إليه كالهارب من السحاب، ملتجئاً إلى الميزاب‏.‏ ومثله قول الشاعر‏:‏ البسيط

المستجير بعمرو عند كربته *** كالمستجير من الرمضاء بالنار

والبيت لسعيد بن حسان‏.‏ وقبله‏:‏

فررت من معن وإفلاسه *** إلى اليزيدي أبي واقد

ومعن هو معن بن زائدة، الأمير الجواد، المضروب مثلاً في الجود والكرم‏.‏ وإنما قال وإفلاسه لأن الإفلاس لازم للكرام في أكثر الأيام؛ واليزيدي هو أحد أولاد يزيد بن عبد الملك‏.‏

وقد أورد العتبي هذين البيتين في تاريخ يمين الدولة محمود بن سبكتكين تمثيلاً، ونسبهما إلى سعيد بن حسان، ونقلتهما منه، لأني لم أرهما إلا فيه، ونقلت شرح بيته الأول من شرح التاريخ المذكور لأبي عبد الله محمود بن عمر النيسابوري الشهير بالنجاتي‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ وهو

الشاهد الثامن والأربعون

لا تخلنا على غراتك إن *** طالما قد وشى بنا الأعداء

على أن بعضهم جوز في السعة حذف أحد مفعولي باب علمت للقرينة، مستدلاً بهذا البيت، أي‏:‏ لا تخلنا أذلاء، الأولى هالكين وجازعين‏.‏ والقرينة البيت الذي بعده‏:‏ وهو‏:‏

فبقينا على الشناءة تنم *** ينا جدود وعزة قعساء

أي‏:‏ فبقينا على بغض الأعداء لنا، ولم يضرنا بغضهم‏.‏ والشناءة بالفتح والمد‏:‏ البغض‏.‏ وتنمين‏:‏ ترفعنا، يقال نماه كذا أي‏:‏ رفعه‏.‏ والقعساء‏:‏ الثابتة‏.‏ والجدود‏:‏ جمع جد بالفتحة، وهو الحظ والبخت‏.‏ وخال يخال بمعنى ظن وحسب‏.‏ وعلى بمعنى مع‏.‏ والغراة بالفتح والقصر اسم بمعنى الإغراء‏.‏ ويقال أغريته به إغراء فأغري به بالبناء للمفعول‏.‏ وقد روي على غرائك أيضاً بالمد، وهو مضاف لفاعله، والمفعول محذوف أي‏:‏ الملك‏.‏

وقال أبو زيد في نوادره‏:‏ يقال أغريت فلاناً بصاحبه إغراء، وآسدت بينهما إيساداً‏.‏‏.‏‏.‏، إذا حملت كل واحد منهما على صاحبه حتى غري به أي‏:‏ لزق به غرى شديداً، مقصور‏.‏ وغريت أنا بفلان فأنا أغرى به غرى، إذا أولعت به من غير تحميل ‏.‏ وأنشد هذا البيت، وأنا بالكسر، لأنه استئناف بياني‏.‏ وطالما أي‏:‏ كثيراً ما، وهو فعل مكفوف عن الفاعل لاتصاله بما الكافة، وروى أيض‏:‏ قبل ما قد وشى بضم اللام أي‏:‏ قبلك، وما زائدة‏.‏ ووشى به عند السلطان وشياً‏:‏ سعى به‏.‏ وقبل هذا البيت‏:‏

أيها الناطق المرقش عن *** عند عمرو وهل لذاك بقاء

والمرقش‏:‏ المزين، أراد الذي يزين القول بالباطل‏.‏ يقول‏:‏ يا أيها الناطق عند الملك الذي يبلغه عنا ما يريبه في محبتنا إياه، ودخولنا تحت طاعته، هل لهذا التبليغ بقاء‏؟‏‏؟‏‏!‏ وهو استفهام إنكاري؛ لأن الملك يبحث عنه فيعلم ذلك من الأكاذيب‏.‏ وعمرو هو عمرو بن المنذر الأكبر بن ماء السماء، ويقال له أيضاً عمرو بن هند، ويلقب بالمحرق لأنه حرق بني تيم في النار، وقيل بل حرق نخل اليمامة‏.‏ وهو من ملوك الحيرة‏.‏

وهذه الأبيات من المعلقة المشهورة لابن حلزة، وهو الحرث بن حلزة من بني يشكر بن بكر بن وائل، وهو بكسر الحاء المهملة وكسر اللام المشددة وهو في اللغة كما قال الصاغاني‏:‏ اسم دويبة، واسم البومة، والذكر بدون هاء ويقال امرأة حلزة للقصيرة والبخيلة‏.‏ والحلز‏:‏ السيء الخلق، انتهى‏.‏ وقال قطرب‏:‏ حكي لنا أن الحلزة ضرب من النبات، ولم نسمع فيه غير ذلك‏.‏ قال أبو عبيدة‏:‏ أجود الشعراء قصيدة واحدة جيدة طويلة ثلاثة نفر‏:‏ عمرو بن كلثوم، والحارث بن حلزة، وطرفة بن العبد‏.‏

وزعم الأصمعي أن الحارث قال قصيدته هذه وهو ابن مائة وخمس وثلاثين سنة‏.‏ وكان من حديثه أن عمرو بن هند لما ملك الحيرة وكان جباراً، جمع بكراً وتغلب فأصلح بينهم، وأخذ من الحيين رهناً من كل حي مائة غلام، ليكف بعضهم عن بعض، وكان أولئك الرهن يسيرون ويغزون مع الملك، فأصابتهم سموم في بعض مسيرهم فهلك عامة التغلبيين وسلم البكريون، فقالت تغلب لبكر بن وائل‏:‏ أعطونا ديات أبنائنا فإن ذلك لازم لكم‏.‏ فأبت بكر، فاجتمعت تغلب إلى عمرو بن كلثوم، فقال عمرو بن كلثوم لتغلب‏:‏ بمن ترون بكراً تعصب أمرها اليوم‏؟‏ قالوا‏:‏ بمن عسى، إلا برجل من بني ثعلبة‏؟‏ قال عمرو‏:‏ أرى الأمر والله سينجلي عن أحمر أصلع أصم من بني يشكر‏.‏ فجاءت بكر بالنعمان بن هرم، أحد بني ثعلبة بن غنم بن يشكر، وجاءت تغلب بعمرو بن كلثوم، فلما اجتمعوا عند الملك قال عمرو بن كلثوم للنعمان بن هرم‏:‏ يا أصم جاءت بك أولاد ثعلبة تناضل عنهم وقد يفخرون عليك‏.‏ فقال النعمان‏:‏ وعلى من أظلت السماء يفخرون‏.‏

قال عمرو بن كلثوم‏:‏ والله إني لو لطمتك لطمة ما أخذوا بها‏.‏ قال‏:‏ والله أن لو فعلت ما أفلت بها قيس أير أبيك‏!‏ فغضب عمرو بن هند، وكان يؤثر بني تغلب على بكر، وجرى بينهما كلام، فغضب عمرو بن هند غضباً شديداً حتى هم بالنعمان، فقام الحارث بن حلزة وارتجل هذه القصيدة، وتوكأ على قوسه فزعموا أنه انتظم بها كفه وهو لا يشعر بالغضب‏.‏

وقال ابن السيد في شرح أدب الكاتب ‏.‏ كان متكئاً على عنزة فارتزت في جسده وهو لا يشعر‏.‏ والعنزة بفتح العين المهملة والنون‏:‏ رمح صغير فيه زج، أي‏:‏ حديدة‏.‏ وكان عمرو بن هند شريراً لا ينظر إلى أحد به سوء، وكان ابن حلزة إنما ينشده من وراء حجاب لبرص كان به، فلما أنشد هذه القصيدة أدناه حتى جلس إليه‏.‏

وقال ابن قتيبة في كتاب الشعراء ‏:‏وكان ينشده من وراء سبعة ستور فأمر برفع الستور عنه استحساناً لها‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ وهو